نكبتنا سبقت هجرتنا
نُكبنا يوم عُزل السلطان عبد الحميد الثاني
مصطفى إنشاصي
---------------------------------------------------
تقديم الباحث الاسلامي
محمد حسني البيومي الهاشمي
فلسطين
الدراسة والتقديم ...
بداية الأخ مصطفى إنشاصي كما عرفته من عشرات السنين له رؤية واقعية وثقافية في قراءة الواقع الفلسطيني وكما كان يصفه القائد الفلسطيني ياسر عرفات بالمخلص العنيد .. فهو حقا كذلك ليس عنده حدود في النقد وثقافته الاسلامية الممزوجة بروح الوطن المسلوب جعلت له لونا من الكتابة الرائعة .. والتي رغم بعض ملاحظاتي عليها في الرؤية إلا إنها تمثل مستوى رفيع في الطرح يحس القارئ له بأنه خصما له لكن سرعان ما يجد فيها دفئ الحنين الى الوطن .. ولماذا لا .. وهو من قلعة الجنوب رفح الشابورة .. عتيدا في تاريخه في فتح وله تجارب عديدة تستحق القراءة وتجربته موضوعية ومتدفقة لكن اختفاء اسمه في الحركة الثقافية لم يكن يسوى لسبب واحد انه ليس تاجر شنطة وكفى !!!!!!!!!
---------------------------------------------------
الدراسة .....
خلال الأسبوعين الماضيين وصلني عبر البريد الالكتروني عدة مقالات عن السلطان عبد الحميد الثاني، بعضها يهاجمه ويتهمه ويحاول إعادة تشويه صورته وحقيقته كما فعل السابقون من أعدائه، والبعض يدافع عنه ويحاول أن ينصف ويقول كلمة حق في حق الرجل. وللحق أني في عام 2003 قد صدمت عندما تفاجأت بأنه مازال هناك البعض من الاتجاهات القومية مازال متخلفاً ولم يغير موقفه أو يعترف بخطأه عندما ذم الرجل وشوه صورته في مناهجه الدراسية أو أدبياته الفكرية الحزبية، وما زال يحمل تلك العقلية الحجرية بعد مرور ما يقارب المائة عام على عزل السلطان عبد الحميد الثاني وتخليه عن العرش، وتكشف كثير من الحقائق التي غابت عن أنصار ذلك الاتجاه وغيره حول الرجل، وحجم الظلم الذي تعرض له منهم حياًَ وميتاً!.
فقد كنت في تلك الفترة أكتب مقالة أسبوعية لإحدى الصحف ذات الاتجاه القومي، وفي أسبوع الإعلان عن توقيع اتفاقية جينف تلك الاتفاقية التي وقعها ياسر عبد ربه مع شريكه يوسي بيلين، ومجموعة لا بأس بها ممن يزعمون أنفسهم مثقفين ومفكرين عرب وفلسطينيين ويهود، وفرطوا فيها بالكثير وعلى رأس ذلك حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الديار التي هجروا وطردوا منها، وقد ناقشت في مقالتي بعض ما جاء في الاتفاقية، وفي آخرها ترحمت على السلطان عبد الحميد الثاني الذي تنازل عن عرشه، وقبل بحياة مهينة في منفاه في سالونيك، على أن يقبل بالموافقة على منح اليهود وطناً قومياً في فلسطين، ويكن سيد سلاطين وحكام زمانه بعدها، وأين هم حكامنا العرب من ذلك الموقف؟!.
وقد أرسلت المقالة عبر الفاكس واتصلت أسأل إن كانت وصلت أم لا؟ فجاءني الرد من رئيس التحرير: نعم وصلت ولكن فيها بعض الأسطر غير واضحة. وأرسلتها ثانية وثالثة وخامسة وكل مرة أتلقى نفس الرد! في المرة الأخيرة قلت له: دعني أكمل لك الأسطر الناقصة على الهاتف. فقال: طيب شوي وأنا أتصل بك لأني مشغول شوي. قلت بانتظار اتصالك. وللأسف لم يتصل وأنا شعرت أنه هناك شيء ما ولكن دون أن يخطر ببالي أن السبب هو مجرد سطر ذكرته عن فضل وموقف السلطان عبد الحميد.
وفي اليوم التالي القيت صديق عزيز لي مدير تحري صحيفة مستقل كنت أكتب أيضاً فيها مقال أسبوعي، وأخبرته بما حدث من تلك الصحيفة وأنا مندهش فهذه أول مرة يحدث منهم ذلك؟! فسألني: إيش موضوع المقالة؟ وما أن أخبرته أني عنوانها "رحم الله السلطان عبد الحميد الثاني"، حتى ثار ضاحكاً وهو صاحب نكتة وخفيف الظل ومزوح جداً، وبدأ التعليق علي ممازحاً أني بعد كل ما حدث ولم أفهم السبب؟! وأخيرا قال: يا رجل انسيت أنهم (كذأ) أي تجاه قومي؟! لحظتها أفقت وصدمت على انه مازال يعيش بين ظهرانينا أناس بهذا الجهل والتخلف والحقد والجمود الصخري وليس الحجري!!.
فقد تكون بعض تلك المقالات التي وصلتني وتهاجم السلطان عبد الحميد الثاني ونحن في عام 2010 من أنصار تلك الاتجاهات التي مازال يثقل صدرها حقد لا مبرر له! علماً كما سأذكر في الحلقات التي سأكتبها مختصرة لإنصاف الرجل الذي ضاعت فلسطين يم تم عزله، أن أشد أعدائه من الذين شاركوا في المؤامرة عليه بعد سنوات فقط من عزله اعترفوا أنهم أخطئوا وأن السلطان عبد الحميد كان على الصواب وأنهم تم استغلالهم من قبل الماسونية. أو قد تكون بعض تلك المقالات مأجورة ومرتزقة تكتب لصالح أعداء الأمة من الغرب واليهود، لتشويه صورة الحكومة التركية ذات الخلفية الإسلامية، من خلال إعادة نشر ما سبق أن كتب ظلماً عن السلطان عبد الحميد، خاصة وأن الغرب يخشى من عودة تركيا بالكلية إلى جذورها الدينية، وعمقها الإسلامي الأصيل، وإلى جوارها التاريخي الذي يشترك معها في حمل نفس الهموم، بعد أن منع إسلام شعبها وتاريخا العريق في مواجهة الغرب دفاعاً عن الإسلام والأمة حصولها على عضوية الاتحاد الأوروبي، الذي هو في حقيقته تجمع دول نصرانية ديناً وغربية حضارة وثقافة وتاريخ، لا ترى في تركيا المسلمة إلا عدوها التاريخي مهما بلغت علمانيتها وتخلي حكوماتها عن الإسلام ومعاداته.
فكيف والحكومة الحالية تعتز بانتمائها الإسلامي وتاريخ الإمبراطورية التركية (الخلافة الإسلامية)، وتسير باتجاه التخلي عن علاقاتها التاريخية الحديثة مع كيان العدو الصهيوني لصالح نصرة فلسطين والقضايا العربية والإسلامية؟ وذلك ما يقلق الغرب وكيان العدو الصهيوني، ويخشى من عودة تركيا إلى أصولها، وتشكيل نوع من الوحدة السياسية والاقتصادية وغيرها مع دول الجوار والعمق، تخل بالتوازنات والمعادلة التي يضعها العدو الصهيوني والغرب لعلاقات أقطار وطننا ببعضها، والتي تخدم مصالحه في النهاية. فإلى جانب المواقف المتشدد التي اتخذها الساسة الأتراك ضد كيان العدو الصهيوني في المحافل الدولية وعلى صعيد العلاقات الثنائية، هناك تحرك لإقامة تحالفات سياسية حقيقة مع بعض دول الجوار، وهناك مساعٍ لإزالة كل الحواجز والموانع للتنقل بينها وبين بعض دول الجوار، كخطوة على طريق تسهيل عودة الدمج والاندماج الجماهيري والشعبي بين شعوب وطننا.
إضافة إلى وقفها للمناورات العسكرية المشتركة التي كانت تُجرى كل عام بالاشتراك مع كيان العدو الصهيوني، وكذلك التدريبات التي تجرى لبعض قوات العدو الصهيوني في تركيا ...إلخ تم إيقافها في مقابل إجرائها مع سوريا. وغير ذلك ليس موضوعنا في الرئيس، قد يكون ذلك ما دفع العدو الصهيوني والغرب ليستأجر بعض الأقلام للكتابة بنفس التوجه القديم لزرع الفتنة في النفوس الضعيفة والمريضة والتحذير من التقارب التركي ـ العربي.
وسوف أركز حديثي عن السلطان عبد الحميد على ثلاثة محاور رئيسة، ألقي من خلالها الضوء على فكر الرجل ورؤيته الثاقبة للخطر الذي كان يحدق بالأمة وقتها، ومحاولته منع وقوعه ولكنه للأسف لم يفهمه إلا القليل. وتلك المحاور هي:
1ـ محاولته الحفاظ على الوحدة السياسية للأمة.
2ـ إدراكه للبعد الإسلامي في القضية المركزية للأمة ـ فلسطين ـ قبل أن تصبح قضية.
3ـ وعيه بالأبعاد الحقيقة للمشروع الصهيوني ضد الأمة والوطن، لذلك رفض الموافقة على استجلاب اليهود من أصقاع العالم إلى فلسطين.
أولاً: مخططات الغرب للقضاء على الخلافة الإسلامية
لقد كان من ضمن الدروس الكثيرة التي تعلمها الغرب الصليبي
من هزيمته في الحروب الصليبية واندحار جيوشه أمام المسلمين، أن مصدر قوة الأمة الإسلامية لا يكمن في عددها ولا عدتها أو ثرواتها وموقعها الاستراتيجي، ولكن يكمن في قوة عقيدتها ووحدتها السياسية التي هي مصدر وجودها ومكوناته. وقد كان من أشهر الوثائق التي وضعت في ذلك أيام الحروب الصليبية، وثيقة خطيرة وضعها (لويس التاسع) بعد خروجه من الأسر في دار ابن لقمان بالمنصورة، لازالت محفوظة في دار الوثائق القومية في باريس، وضع فيها خلاصة تجارب الغرب في حروبه الصليبية مع المسلمين، في نقاط دقيقة وخطيرة طبقها الغرب بعد قرون طويلة من وضعها، بعد أن أصبحت له الكرة والغلبة في وطننا الإسلامي، مما مكن له من استمرار وجوده في وطننا حتى بعد اندحار جيوشه العسكرية وآلته الحربية وخروجها من وطننا، وقد جاء في تلك الوثيقة:
"إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال حرب، وإنما يمكن الانتصار عليهم بواسطة السياسة وبإتباع ما يلي:
أ) إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين وإذا حدثت فليعمل على توسيع شقتها ما أمكن حتى يكون هذا الخلاف عاملاً في إضعاف المسلمين.
ب) عدم تمكين البلاد الإسلامية والعربية أن يقوم فيها حكم صالح.
ت) إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والنساء حتى تنفصل القاعدة عن القمة.
ث) الحيلولة دون قيام جيش مؤمن بحق وطنه عليه ويضحي في سبيل مبادئه.
ج) العمل على الحيلولة دون قيام وحدة عربية في المنطقة.
ح) العمل على قيام دولة غربية في المنطقة العربية في المنطقة العربية تمتد حتى تصل إلى الغرب.
فقد كان مما تعلمه الغرب الصليبي من هزيمته في الحروب الصليبية أثر الخلافة الإسلامية في وحدة المسلمين السياسية، وأنها تمثل الرابطة السياسية التي تربط بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ولسانهم، وتجعل منهم كياناً سياسياً واحداً على رأسه الخليفة الذي له الكلمة المسموعة في كل شئون الحياة السياسية وغيرها، والخلافة هي الإطار الذي يحافظ على وحدة المسلمين وترابط الجسد الإسلامي مهما كانت عوامل ضعفه، ولقد ظلت الخلافة الإسلامية مع ضغطها القوة التي يخشاها الغرب الصليبي في وطننا والتي تعيق تحقيق أهدافه وغاياته في بلاد المسلمين. وذلك ما عبر عنه (جوستاف لوبون) وهو يحذر وينذر الغرب الصليبي في العصر الحديث من خطر قدرة الإسلام على إعادة توحيد شعوب الأمة، رغم ما بينها من اختلافات، قائلاً: "رغم ما بين الشعوب الإسلامية من فروق عنصرية، فانك ترى بينها من التضامن الكبير ما يمكن أن يشدها ويجمعها تحت راية واحدة في أحد الأيام".
ولم ينفك قادة الغرب من السياسيين والمفكرين والمنصرين والمستشرقين وغيرهم من التذكير بخطر الخلافة الإسلامية عليهم طوال قرون، وأن عليهم القضاء على الوحدة والكيان السياسي الإسلامي إن هم أرادوا السيطرة على المسلمين. فهذا القسيس المنصر (ليبسوس) في أحد تقاريره لمرؤسيه ينصح لهم كيف عليهم أن يوجهوا كل قواهم للقضاء على الخلافة الإسلامية، بقوله: "إن نار الكفاح بين الصليب والهلال لا تتأجج في البلاد النائية في مستعمراتها في آسيا وأفريقيا بل ستكون في المراكز التي يستمد منها الإسلام قوته، عاصمة الخلافة، فإن كل الجهود التي نبذلها لا تأتي بفائدة إذا لم يتم التوصل إلى القضاء عليها...". لذلك كان يتوجب على الغرب القضاء على الخلافة الإسلامية لينفرط العقد وتتناثر حباته كلٌ في اتجاه مختلف.
وذلك كان هدف الحروب التي شنتها الدول الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين على دول الدولة العثمانية، تلك الحروب التي كانت متميزة بطابع ديني، يقول (لورنس براون): "وكذلك شنت الدول الأوروبية في القرن التاسع عشر والعشرين حرباً عدوانية على الحكومات المسلمة ثم انتزعت منها أرض ضمتها إلى سلطانها هي، ولقد كانت النتائج في أحوال كثيرة غير سارة لبعض الشعوب التي استعبدت وخصوصاً من المسلمين ولكن هذه الشعوب لم تصل بعد إلى درجة تشعر أنها مضطهدة أو أنها تعيش في حابورات "أحياء اليهود الجيتو" أما غاية الدول الأجنبية من محاربة الدولة العثمانية فكانت كما يراها المبشرون لعل الله الرحيم يضرب الأتراك بسيف قدرته الجبار".
أما (لورانس العرب) فقد كان أكثر وضحاً وتصريحاً في طرح مخططاته للقضاء على الكيان السياسي الإسلامي (الخلافة العثمانية)، فقد كتب في أحد تقاريره: "علينا أن ندفع بالغرب لانتزاع حقوقه من تركيا بطريق العنف.. لأننا بهذا نقضي على خطر الإسلام وندفع به (أي الإسلام) لإعلان الحرب على نفسه وبذلك نمزقه من القلب. إذ ينهض في مثل هذا الصراع خليفة في تركيا وخليفة في العالم العربي. ويخوض الخليفتان حرباً دينية وبذلك يقضي على خطر الخلافة الإسلامية بصورة نهائية..". والخليفة العربي الذي صنعه لورنس ودفعه لقتال الخليفة العثماني والتمكين للمستعمرين الصليبيين في وطننا هو الشريف: الشريف حسين بن علي الذي تسببت في وقوع الدول العربية كلها تحت الاحتلال الغربي.
إن الرغبة الشديدة عند الغرب الصليبي للقضاء على الخلافة الإسلامية من أجل تفتيت الوطن الإسلامي، هي التي اضطرته لتوحيد جهود وجمع كلمته ـ كما يقول (وديع تلحوق) في كتابه "الصليبية الجديدة في فلسطين": "إن الدول الأوربية اجتمعت كلها على هدف واحد برغم ما بينهما من تباين آراء وتضارب مصالح وهو القضاء على الإمبراطور العثمانية، وأذاعوا أن الأتراك المسلمين يضطهدون المسيحيين، وأن هذه الدولة تقوم على عنصر ديني، وتستهدف استئصال المسيحيين من سائر القارة الأوربية إذا تسنى لها ذلك، وعلى هذه الصورة امتدت أصابع الغرب الصليبي إلى صميم الشرق العربي رويداً رويداً. وقد رأينا جيوش الصليبية تغمر سواحل البلاد العربية، وقد حاولت أن تستغل حركة التحرر العربي حتى إذا تم لها الفتح وساعدها سكان البلاد كشرت عن أنيابها، ووقفت تقول للشعوب العربية أنتم جزء من الغنائم والأسلاب، لا شركاء في الظفر والفتح).
ذلك كان موقف الغرب من الوحدة السياسية الإسلامية المتمثلة في دولة الخلافة العثمانية، وذلك كان مخططه للقضاء على الكيان السياسي الإسلامي وتفتيت وحدة المسلمين.
الجامعة الإسلامية في فكر السلطان عبد الحميد
يعتبر السلطان عبد الحميد الثاني هو آخر السلاطين العثمانيين الفعليين، وقد حكم في الفترة من (1876-1909)، في ظل ظروف صعبة كانت تحيط بدولة الخلافة، ومؤامرات شرسة في الداخل والخارج كانت تُحاك ضد الدولة العثمانية، ومشروع صهيوني ناشئ يريد قلب الأمة والوطن ـ فلسطين ـ وطناً قومياً لليهود (دولة يهودية)، وتساقط أقطار الوطن الإسلامي الواحدة تلو الأخرى تحت الاحتلالات الغربية، الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830، تلاه الاحتلال البريطاني لعدن عام 1839، وفي عهده الاحتلال الفرنسي لتونس عام 1881، والاحتلال البريطاني لمصر 1882. ومن أجل وقف ذلك التراجع في قوة المسلمين والحفاظ على الوحدة السياسية للمسلمين، واستعادة نهضة الأمة، والحفاظ على تماسك ووحدة ما تبقَ من أقطارهم ومنع وقوعها تحت الاحتلال الغربي، أطلق فكرته (الجامعة الإسلامية)، التي كانت الصرخة الأخيرة للحفاظ على وحدة المسلمين سياسياً وجغرافياً، ولتحرير ما احتل من بلادهم. فقد كان السلطان عبد الحميد مؤمناً بفكرة (الجامعة الإسلامية)، كما كان متميزاً بتقواه وغلبة الوازع الديني عنده، واعتزازه بالإسلام وتاريخه الإسلامي، وكان طموحه كبيراً ويتركز على إعادة وحدة المسلمين ونهضتهم، وإعادة بناء قوتهم تحت راية الخلافة الإسلامية، ليستطيع الإسلام ممارسة دوره الحضاري، وليعود المسلمين لعطائهم الحضاري للحضارة الإنسانية كما كان أسلافهم. وليتمكنوا من مواجهة غزو الحضارة الغربية لهم ووقف أطماع الغرب الصليبي في وطننا. فقد كان السلطان عبد الحميد يرى "أن الإسلام هو القوة الوحيدة التي تجعلنا أقوياء ونحن أمة حية قوية ولكن شرط أن نصدق في ديننا العظيم". وقد كان يشاركه الرأي نفسه جمال الدين الأفغاني وكثير من المفكرين في ذلك الوقت.
وفي المقابل كان الغرب الصليبي في ظل تلك الظروف الصعبة التي كانت تمر بها دولة الخلافة الإسلامية العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر، يشعر ويمني نفسه باقتراب زمن اقتسامه لممتلكات دولة الخلافة، وانتزاع فلسطين من السيادة الإسلامية، ويعمل جهده منع أي حدث ممكن أن يؤخر تحقيقه لأطماعه في وطننا، وتنفيذ مخططاته لمخططاته ضد الأمة والوطن. وقد كان السعي الحثيث من آخر الخلفاء العثمانيين الفعليين ـ السلطان عبد الحميد الثاني ـ لإعادة توحيد الأمة الإسلامية، واستعادة قوتها ومجدها، وبعث الروح القوية في نظامها السياسي، من خلال الدعوة إلى فكرة "الجامعة الإسلامية" التي لو قدّر لها النجاح لانحصر الغرب داخل حدوده مرة أخرى، كما حدث أيام مجد الإسلام السياسي، وما كان أفلح اليهود في اغتصاب فلسطين، هو ما أثار الغرب ضد السلطان عبد الحميد وأرعبه كثيراً منه، وخشي من نجاح فكرة الجامعة الإسلامية ومن عودة الروح والتماسك للأمة من جديد.
فالغرب يدرك جيداً وأكثر من كثير من المسلمين؛ أن الإسلام في المفهوم السياسي الصحيح يمثل الوطن للمسلم، وذلك ما عبر عنه المستشرق الفرنسي (هانوتو) مستشار وزارة (الاستعمار) الفرنسية بقوله: "إن شعور المسلمين مبهم من حيث الجامعة السياسية أو الرابطة الوطنية فالوطن عندهم هو الإسلام، وهم يقولون: إن السلطة مستمدة من الإلوهية فلا يجوز أن يتولاها إلا المسلمين". إن هذا المفهوم الغربي للإسلام هو الذي دفع الغرب للثورة ضد دعوة السلطان عبد الحميد الثاني وجمال الدين الأفغاني وغيرهما للجامعة الإسلامية في القرن التاسع عشر وعمل على تشويهها. فقد كتب أحد المستشرقين الفرنسيين في ذلك قائلاً: "كانت حركة الجامعة الإسلامية، هي الغول المرعب في ذلك العصر، على نفس الطريقة وفي نفس الزمن الذي انتشر الرعب فيهما من الخطر الأصفر وكانت هذه الكلمة ـ حركة الجامعة الإسلامية ـ نفسها توحي بالتطلع الإسلامي للسيطرة وبأيديولوجيا عدوانية، وبمؤامرة على نطاق عالمي".
كما يقول (لوثروب): كانت دعوة السلطان عبد الحميد للجامعة الإسلامية بمثابة "استصراخ الأمم الإسلامية في كل رقعة من رقاع العالم الإسلامي لتمد يد العون إليه وشد أزره بالالتفاف حوله، قاصداً قذف الرعب في روع الدول الغربية التي خالها تأتمر فيما بينها وتتخذ الوسائل للقضاء على المملكة العثمانية"، وقد بلغ أمر هذه الدعوة غايته؛ وهي تكتيل المسلمين وجمع كلمتهم وتهيؤهم للجهاد، حتى كان السلطان يفاوض الدول الكبرى ويساومها، بل ويهددها أحياناً، مُلوّحا بسلاح الجهاد".
ثانيا: البعـد الإسـلامـي فـي الـصراع
على الرغم من ضعف المعلومات والتوثيق عن الحضور الإسلامي في الكتابات القومية والوطنية العربية والفلسطينية، مقارنة بما حشدوه من
ولقد كان أول من أدراك من أصحاب القرار البعد الإسلامي في الصراع وفي الهجمة اليهودية ـ الغربية على الأمة والوطن، هو السلطان عبد الحميد، فقد كان يتمتع بحس ووعي إسلامي جعله يدرك النوايا الشريرة التي يضمرها اليهود ضد الأمة والوطن من وراء أطماعهم في فلسطين، ما جعله يرفض الموافقة على تحقيق الأماني اليهودية في فلسطين، ما دفع الحلفاء اليهود والصليبيين إلى التآمر عليه والإطاحة به عن العرش. ونود التأكيد من البداية أن السلطان عبد الحميد كان يتابع تحركات اليهود ومخططاتهم من قبل توليه السلطنة، أيام كان مقيماً في ألمانيا قبل توليه الخلافة، وكانت الفكرة الصهيونية أيامها في بداياتها، وكان يكتب عنها بعض المفكرين الصهاينة في الصحف الألمانية وقد كان متابعاً لتلك الكتابات، ما جعله يدرك أكثر من غيره أبعاد مخطط اليهود في فلسطين وخطره على الأمة والوطن، لذلك فإن موقفه من الصهيونية لم يكن طارئاً، ولكن كان موقفاً نابعاً من عقيدة صلبة عنده، وغيرة على دينه مقدساته. "ونستطيع القول باطمئنان بأن عبد الحميد الثاني بنفسه هو الذي وضع الجحر الزاوية لسياسة مواجهة الحركة الصهيونية حيث كان مُصراً على منع الهجرة اليهودية إلى فلسطين بأي ثمن، بالإضافة إلى أنه طلب من وزرائه أن يدرسوا ويحيطوا بعناية بكافة جوانب المسألة في اجتماعاتهم، وأن يخرجوا بسياسات محددة ومتكاملة في الوقت نفسه لكي يواجهوا بها الظاهرة الصهيونية على الصعيد المحلي والعالمي".
فقد كتب في مذكراته ما يؤكد حقيقة إدراكه لأبعاد المشروع الصهيوني في فلسطين، وأن ذلك الإدراك هو الذي منعه من الموافقة عليه، وأن المسلمين أحق من اليهود بفلسطين: "إن الزعيم الصهيوني هرتزل لم يقنعني بأفكاره، وقد يكون قوله ـ هرتزل ـ: (ستحل المشكلة اليهودية يوم يقوى فيه اليهودي على قيادة "محراثه" صحيحاً في رأيه، إنه يسعى لتأمين أرض لإخوانه اليهود، لكنه ينسى أن الذكاء ليس كافياً لحل جميع المشاكل ... لن يكتفي الصهاينة بممارسة الأعمال الزراعية في فلسطين بل يريدون أموراً أخرى مثل تشكيل حكومة وانتخاب ممثلين، إنني أدرك أطماعهم جيداً لكن اليهود سطحيين في ظنهم أنني سأقبل بمحاولاتهم. وكما أنني أقدر في رعايانا من اليهود خدماتهم لدى الباب العالي فإني أعادي أمانيهم وأطماعهم في فلسطين". وذلك لأنه كان يعلم أهداف الحركة الصهيونية ومقاصدها منذ نشأتها وبدأ يعارض مخططاتها، وكثيراً ما كان يردد: "إن عليهم أن يستبعدوا فكرة إنشاء دولة في فلسطين لأنني لازلت أكبر أعدائهم". ذلك الإدراك المبكر من السلطان عبد الحميد الثاني كان يشاركه فيه كثير من العلماء والمفكرين والزعماء والقيادات العربية والإسلامية، وكذلك الجماهير الفلسطينية بفطرتها، على بساطتها وتواضع تعليمها وثقافتها.
وكما كان السلطان عبد الحميد مدركاً لخطر المشروع الصهيوني على فلسطين والأمة، فإنه كان مدركاً أيضاً لأهمية أن يبقى العنصر العربي في فلسطين متفوقاً على اليهود، فقد كتب في مذكراته يقول: "... ولكن لدينا عدد كافٍ من اليهود، فإذا كنا نريد أن يبقى العنصر العربي متفوقاً، علينا أن نصرف النظر عن فكرة توطين المهاجرين في فلسطين وإلا فإن اليهود إذا استوطنوا أرضاً تملكوا كافة قدراتها خلال وقت قصير، وبهذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين بالموت المحتم". وهذا الموقف عند السلطان عبد الحميد موقف ثابت ونابع عن وعي وإدراك للأهداف اليهودية، فنحن نجده أيضاً يكتب في مذكراته: "من المناسب أن نقوم باستغلال الأراضي الخالية في الإمبراطورية، وهذا يعني من جانب آخر، أنه كان علينا أن ننهج إتباع سياسة تهجير خاصة، ولكننا لا نجد أن هجرة اليهود مناسبة لأن غايتنا هي استيطان عناصر تنتمي إلى دين أسلافنا وتقاليدنا، حتى لا يستطيعوا الهيمنة على زمام الأمور في الدولة".
ويتجلى موقفه الإسلامي في رفضه ذلك مع شدة الإغراءات، عندما يقول في مذكراته ص11-12: "لماذا نترك القدس... إنها أرضنا في كل وقت وفي كل زمان وستبقى كذلك. فهي من مدننا المقدسة، وتقع في أرض إسلامية، لابد أن تظل القدس لنا".
كما أن رسالته التي أرسلها من سجنه ومنفاه في سالونيك مع أحد حراسه إلى شيخه في الطريقة الشاذلية في حلب (الشيخ محمود أبو الشامات)، تشهد له على ثبات موقفه الإسلامي، حيث يقول فيها: "(إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين) ورغم إصرارهم، لم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيراً وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة إنجليزية ذهباً، فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضاً، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي: إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً، فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة فلم أسود صحائف المسلمين). وبعد جوابي هذا اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيعيدونني إلى سالونيك، فقبلت بهذا التكليف الأخير. هذا وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل بأن ألطخ العالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة: فلسطين".
وعندما ازداد النشاط الصهيوني في فلسطين وخارجها إعلامياً، وشعر السلطان عبد الحميد بخطورة أهداف الحركة الصهيونية في فلسطين، التي بدأت تتمتع إلى حد ما بحماية دولية، وبدأت تمارس الدول الغربية على تركيا شبه ضغط لصالح اليهود، "أصدر السلطان عبد الحميد قوانين جديدة في حزيران/يونية 1898م منع فيها اليهود الأجانب من دخول القدس على أن هذه القوانين لقيت معارضة من القنصليات الأجنبية. فابرق متصرف القدس إلى الباب العالي (يطلب منه تعليمات دقيقة ومحددة حول القوانين الجديدة) وجاء الرد بعد شهرين وبالذات في 25 آب/أغسطس عام 1898م ـ أي قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الثاني بثلاثة أيام ـ يطلب الصدر الأعظم تنفيذ قوانين الهجرة الخاصة باليهود". وقد أكد ذلك القنصل البريطاني في القدس (ديكسون) وقد بلغ من تشدد السلطات العثمانية في تنفيذ هذه القوانين أنها منعت نائب القنصل البريطاني في أنطاكية من الدخول ما لم يقدم التعهد المطلوب باعتباره يهودياً. ومما جاء في بنود القوانين الجديدة:
أ- لا يسمح لليهودي الأجنبي زيارة الأراضي المقدسة إلا بداعي الزيارة الدينية.
ب- يتوجب عليهم دفع تامين مالي أثناء دخوله البلاد.
ت- يتعهد بمغادرة البلاد خلال ثلاثين يوماً.
ولم يكن التشدد في منع هجرة اليهود مقتصراً على منطقة القدس فحسب: "بل حدث أن منع قائمقام يافا بعض اليهود الإنجليز من دخول البلاد وأعادهم إلى السفينة، كما قام بطرد عائلتين يهوديتين لانتهاء زيارتهما، وكانت مثل هذه القوانين تطبق في مختلف أنحاء فلسطين إلا أن المرتشين من الحكام كثيراً ما كانوا يعطلون من فعاليتها".
ولكن اليهود في المقابل حاولوا أن "يستغلوا كل فقرة وجدوها في الحكم العثماني المحلي، فبعد نقل متصرف القدس "توفيق بك" المشهور بتشدده حيال الهجرة اليهودية في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1900م تبين أن اليهود وجهوا أنظارهم مرة ثانية إلى المتصرفية لأن المتصرفين الثلاثة الذين خلفوه في المنصب لم يكونوا مثله من حيث الأمانة والإخلاص. ولكن الحكومة العثمانية أصدرت في تشرين الثاني/نوفمبر 1900م (القوانين المتعلقة بالزوار اليهود للأراضي المقدسة) حيث ألغت قانون تامين الخمسين ليرة تركية وتحديد الإقامة بـ(31 يوماً) الصادر عام 1887م وما يليه، وسمح لكل يهودي أجنبي يزور فلسطين بالإقامة فيها ثلاثة أشهر مقابل تسليم جوازه، وإعطائه بدلاً منه جوازاً أحمر خاصاً مقابل تعرفة رسمية هي قرش واحد". وفي كانون الثاني/يناير عام 1901م وضعت السلطات العثمانية أوامر الباب العالي موضع التنفيذ، ورفضت السماح لليهود بدخول القدس ما لم يقبلوا بالفترة الجديدة المحددة لإقامتهم، والتي تمتد إلى (91) يوماً فحسب". وعلى الرغم من احتجاج قناصل الدول الأجنبية على ذلك إلا أنه لم تتغير هذه القوانين.
10/5/2010
نشرت هذه المقالة في منتدى فلسطين الى الأبد
المنتــــدى الـفـلســــطينــي ــ فلسـطـــين مــن هنــا وهنــاك
http://www.palestineonly.net/vb/showthread.php?p=792891#post792891
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق